- نعيمُ اللحظات !




نعيمُ اللحظات !


إيهٍ يا نعيم ..
ماذا عسى القلبُ أن يروي ؟
و ماذا عن الحياةْ ؟ كيف لها أن تتوارى عنك ؟

نعيم الأفغانيّ ، خبّازٌ بسيط في حيّ الناصرية بالرياض . وجههُ هذا حكاية ، لا . وجههُ ملحمةٌ كبرى فيها آلاف القصص والأحداث والسنينْ . لو كان للقصيدةِ أيّ قدرة للتّمثّل في بَشرٍ لكان نصيبُ القصيدة الصادقة من عينيه .. و ابتسامتهُ أجزمُ أنها استعاراتُ القصائد المرهفَة ، الاستعاراتُ التي تطمعُ فيها كل "ليلى" في الأرض ..

عن نعيمٍ أكرهُ استدعاءَ رائحة الخبز الجميلة ، و ضوء الشمسِ ، و الصحوِ ، و بداية الصباح . استدعاءاتٌ تحضر - بكلّ تعالٍ - لوصف كل خبّازي الدنيا ، أوصافٌ تثيرُ الشفقة أكثر من التعبير عن الكم الهائل من الصفاءِ الذي يتبعُ الحديثَ معه ! لا يشكو و كأنه لا يعاني ، يضحك . غربتهُ هادئةٌ بطيئةٌ زرعتْ حنيناً يثورُ كلّ يوم في صدرهْ . يذكرُ أهلهُ فتغرق عيناهُ بدمعٍ يستحي أن يبلّلَ وجنتيهْ . يذكرُ أرضهُ فيتذكّرُ أنها لم تعدْ تُعطيهْ ، يتذكّرُ أنها دفعتهُ دفعاً حتى خرج منها بلا شيء ! حتى قطيعُ البقر الذي يملكهُ استغنى عنهُ مُرغماً كما قال 


لا تمتلئ اللحظةُ معه حنيناً و مشاعر تحرّك في النفس ما تبقّى من حياة فقط . هذا الرجلُ يستميتُ في كلّ مرةٍ ألتقي به على تعريفي بما هم عليه هناك ، أخبرني عن المدينة الأفغانيةِ الباردة ( قيرديز ) و التي لا يكسرُ صقيعها صيفٌ ولا شمسْ . أخبرني عن تنوعهم اللغوي المعقّد ، والذي يقسّم الألسن الأفغانية إلى أربعة ألسنْ أحدها يتحدث البشتوية ( وهي لغتهم الأم )  و الآخر يتحدث الأوزبكية ، و الفارسية تفرّد بها لسان ، و الرابعُ يتحدث التركمانية ( اللغة الرسمية في تركمانستان - مشتقة من اللغات التركية )

 أحاولُ دائماً أن أقودَ الحوار إلى منطقة سياسية ، ربما يتسنى لنا شتمُ أمريكا لدقائق ، و لكنَّ نعيمٌ  هذا يرى أن اليومَ إذا انحنى منحىً سياسيّ سيفسد . كما أني في كلّ مرّةٍ أراه أجدد فيها استيائي  من كل المعاير التي تسير بها علاقاتنا الإنسانية - و قَسَماً بربّ نعيم الطيّب - أني ألعنُ الأقلامَ التي رسَمتها ، و السُنَنَ التي كوّنتها بهذا الشكل الحديث الفجّ . أبو خالد - أقرب جيران نعيم -  بأي يحقٍّ يشتمهُ و يسخرُ منه كلّما رآه ؟ بأيّ حقٍّ يتعالى باعتبارهِ صاحب أرض ؟ لا يفهمُ كم من العار أن يخلقَ استياءً و حزناً يتجرّعُهُ أيّ إنسان ! سنواتٌ و فقيرُ الأدبِ يرمي نعيم بما يوجعه ، و نعيمٌ صامت ، لماذا ؟ لأنه لا يستطيع الوقوف في وجه صاحب الأرض ! لذلك ألعن المعاير النتنة التي تجرأ بها أبو خالد .


لم أخفي حزني عند سماعِ خبر مغادرة نعيم القريبة من السعودية ، حاولتُ أن يطغى شعورُ الفرحِ لانتهاء غربته ، ولكن لا جدوى من مبارزة ما أحسّ به . نعيم يرحلُ بلا عودة . لن ألتقيهِ إلا بمعجزةٍ استثنائية . يرحلُ مُسافراً عن جدي و عني و عن خالي و أخي . كلنا نحبهُ و كلنا نعرفه من زمن ليس بالقصير . أودّعه عارفاً أني أودّع فصلاً أبيضاً من حياتي ، فصلاً راقياً من أوجهِ الإنسانية الحقيقة ، لا استطيعُ وصف لوعتي عندما تفتقد الدنيا إنسانٍا بهذه البساطة . تلقائيتهُ كانت كالمطرْ ، تهطلُ بلا ترتيبٍ لتروي قاع قلبي . أكتبُ عن نعيم مُعزّياً بذلك نفسي ، مستنداً على الكتابة لأنها رهانٌ على بقاء الإنسان و ذكرياته و حقيقته . أسجّل اعترافيَ أنّي مدينٌ لهذه السنين التي قرّبتنا منه .. و خابت مساعي كل الحقائقِ إن ضايقت ذاكرتي لأنسى نعيم . 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

طفل علّيين - جاسم الصحيح

تغريدات الدكتور عدي الحربش وحديثه عن ديوان ( الأهلّة ) و شاعره محمد عبدالباري .

صورة العرب و الإسلام في وسائل الإعلام الغربية - محمد عابد الجابري