صورة العرب و الإسلام في وسائل الإعلام الغربية - محمد عابد الجابري

\
"صورة العرب و الإسلام في وسائل الإعلام الغربية"
 د. محمد عابد الجابري


1- العرب و الإسلام والمهاجرين في الإعلام الأوروبي:

     قد يكون من المفيد قبل الخوض في "صورة العالم العربي في وسائل الإعلام الغربية" تحديد موقع الكاتب من هذه الصورة: هل هو يعيشها يوميًا و بالتالي واقع تحت تأثيرها المباشر و موجه ، بهذه الدرجة أو تلك ، بردود الفعل التي تثيرها فيه في كل آنٍ و حين ، كما هو الشأن بالنسبة إلى من يعيش في في أوروبا و أمريكا. أم أنه يقع خارج مجال تأثيرها المباشر و بالتالي يتعرف إليها بواسطةٍ ما ، من خلال نصوص يقرأها أو مشاهد يراها أو يسمع عنها ، من دون أن يكون واقع تحت تأثيرها المباشر ، و من ثمة يتعامل معها كما يتعامل الباحث مع موضوعه ، أي بوصفها مادة للتحليل الموضوعي و الفحص النقدي؟ 

     إن كاتب هذه السطور يدّعي لنفسه هذا الموقع الثاني: إنه يعي تمامًا أهمية المسافة التي تفصله عن تلك "الصورة" ، وهي مسافة مكانية و زمانية ، اجتماعية و نفسية. إنه بحكم وقوعه خارج أوروبا و أمريكا يجد نفسه يتعامل مع تلك الصورة - إلى حدٍّ ما - كما يتعامل المرء مع أشياء تقع في مكان بعيد، تصل إليه أخبارها بعد وقوعها ، و بعد أن تكون قد جفّت شحناتها الايديولوجية و النفسية. إن وسيلته إليها هي النصوص التي تتحدث عنها في الصحف و المجلات و الكتب. و من هنا سيكون موقف كاتب هذه السطور أقرب إلى موقف "المؤرخ" المفكِّك للظاهرة ، الكاشف عن مكامن الزيف فيها ، المحلّل للآليات المعرفية التي تنتجها .

     سيدور الكلام في هذه البحوث إذاً حول أربعة محاور رئيسية:

1- صورة الإسلام كما تصنعها وسائل الإعلام الغربية.
2- الإسلام بوصفه "الآخر" الذي تجب مواجهته.
3- آليات العقل الأوروبي في التعامل مع "الإسلام".
4- ما تسكت عنه و تغيّبه وسائل الغعلام الغربية.


     يلاحظ المتتبع لتجلّيات صورة الغسلام و تقلّباتها في وسائل الإعلام الغربية أنها صورة متحركة ، مصنوعة ، تتغير فيها الألوان و تتبادل عناصرها المواقع حسب الظروف و الأحوال. و في الظرف الراهن ( بداية التسعينات من القرن العشرين ) تبدو هذه الصورة ذات ثلاثة مناظر أو أبعاد هي: العرب و الهجرة و الإرهاب.


    و هكذا فـ "الإسلام"  فيها لا يدل على دين أو حضارة بقدر ما يشير إلى نوع خاص من "المسلمين" هم تارة "العرب" و تارة "المهاجرون" ، و حينًا "المتطرفون الأصوليون" . و حينًا آخر ما يتخيّله صانعو تلك الصورة أن "الإسلام" يمكن أن يكونَ: شيئًا مخيفًا

     لنفحص إذاً هذه العناصر ، كلًا على حده ، كما تتحدد داخل وسائل الإعلام الغربية في الوقت الراهن ، و لنبدأ بـ "العرب" :

     أ- الواقع أن تلازم "العرب" و "الإسلام" حقيقة تاريخية. فالإسلام هو دين العرب أساسًا ، و القرآن ، كتابة المقدس ، جاء بلغة العرب وهو يربط الإسلام و العرب معًا بأصل واحد هو إبراهيم أول المسلمين ( الموحدين لله ) و ابنه إسماعيل أول المسلمين من العرب. و مع ان دعوة الإسلام هي دعوة إلى الناس كافة مما جعل منه إحدى الديانات العالمية الكبرى ، فإن تاريخ نشوئه و انتشاره و انتشاره مرتبط بالعرب و فعالياتهم التاريخية . و هكذا فكما أن العرب هم مادة الإسلام ، كما قال الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، فإن تاريخ العرب متداخل بتاريخ الإسلام منذ ظهور هذا الاخير ، تمامًا مثل تلازم اللغة العربية و القرآن .

     ذلك هو أساس الترابط بين العرب و الإسلام كما يعيشه وجدان المسلم . أما وسائل الإسلام الغربية المعاصرة فهي تقيم بينهما نوعًا آخر من العلاقة يختلف تمامًا: فهي من جهة لا تقصد جميع المسلمين حين تتحدث عن "الإسلام" فلا تدخل في مجال اهتمامها - في الوقت الحاضر على الأقل - مسلمي اندونيسيا و باكستان و نيجيريا على الرغم من انهم يشكلون الأغلبية العددية من المسلمين على وجه الأرض ، و إنما تقصد أساسًا العرب ( و إيران ) أي مسلمي الشرق الأوسط . هذا من جهة ، و من جهة ثانية لا تقصد جميع العرب حين تتحدث عنهم إذ لا تُدخل في اهتمامها ، في هذا السياق ، لا المسيحيين العرب ولا الأقلّيات الدينية و العرقية الأخرى التي تشترك مع العرب المسلمين في وطن واحد . و هكذا يبدو واضحًا أن ما يجمع بين العرب و الإسلام في الصورة التي تقدمها عنهما وسائل الإعلام الغربية هو شيءٌ آخر يقع خارج المعنى الديني لـ "الإسلام" و المفهوم العرقي لـ "العرب" ، شيء يجمع إيران إلى العرب و يفصل عنهما باقي المسلمين . إنه نفط الشرق الأوسط الذي تقول عنه وسائل الإعلام الغربية ذاتها إنه يشكل ثلثي المخزون العالمي من هذه المادة التي يقوم عليها كيان الحضارة الغربية المعاصرة. 

     النفط محدِّد أساسي لهوية العرب / الإسلام في الصورة التي يقدمها الإعلام الغربي عنهما: وقد أخذ هذا العنصر يحتل مركز الصورة بعد حرب تشرين الأول / أكتوبر1973 ، بين العرب و إسرائيل ، حين عمدت الدول العربية المنتجة للنفط إلى التوقف عن إمداد الغرب بما يحتاجه منه ، و ذلك كردّ فعل ضد وقوفه إلى جانب إسرائيل ، ثم زادت أهمية هذا العنصر مع قيام الثورة الإيرانية و الإطاحة بنظام الشاه الذي كان يحمي مصالح الغرب في المنطقة ، و في مقدمة تلك المصالح نفط إيران و نفط العرب .

     من هذه الوجهة يمكن القول ، إذاً ، أن صورة العرب و الإسلام في وسائل الإعلام الغربية ، و بالتالي في مخيال الغرب عمومًا صورة غير موضوعية ، صورة يتحكم فيها عنصر ذاتي هو حاجة الغرب إلى النفط و خوفه من أن يمارس فيه مالكوه من العرب و المسلمين حقهم المشروع في الاستفادة منه و استعماله عند الحاجة كأداة ضغط لنيل الحقوق التي يهضمها النظام العالمي القائم على هيمنة القوى العظمى و تهميش ما عداها.

     ب- يحتل "المهاجرون" إلى جانب النفط موقعًا بارزًا في صورة "الإسلام كما تقدمها وسائل الإعلام الغربية عامة و الأوروبية خاصة. و الواقع أن ربط "الإسلام" بـ "المهاجرين" عملية فيها كثيرٌ من التعسف: فمقولة "المهاجرون" في الخطاب الأوروبي لا تعني شيئًا واحدًا محددًا ، فهم تارةً أولئك الذين يقيمون في أوروبا إقامةً غير قانونية ، و لكنهم ، أو كثيرٌ منهم على الأقل ، مقبولون للعمل سرًّا في الفلاحة أو في المطاعم و المقاهي و المعامل الصغيرة لكونهم يقبلون أجورًا منخفضة ولا يطالبون بالحق في الضمان الإجتماعي . فهم من هذه الناحية غير قانونيين على الصعيد الرسمي و لكنهم مطلوبون على صعيد سوق العمل غير القانوني . هذا بينما يتم التعامل مع "المهاجرين" في الخطاب العنصري الشوفيني ، لا بوصفهم يقيمون بصورة غير قانونية بل بوصفهم من عرق آخر. قد تمتد العنصرية أحيانًا إلى اعتبار كل من ليس أصله من العرق صاحب البلد مهاجرًا غير مرغوب فيه. و قد تتجه العنصرية أحيانًا أخرى إلى نوع معين من المهاجرين دون غيرهم كالأتراك في ألمانيا ، و أبناء المغرب العربي في فرنسا .

     و كما يلاحظ المراقب الخارجي هذا التردد و الاختلاف في تحديد مفهوم "المهاجرين" في الخطاب الأوروبي المعاصر ، يلاحظ  كذلك اختلافًا مماثلًا في العوامل و المبررات التي يُصَنّف بموجبها "المهاجر" كغريبٍ غير مرغوب فيه. و هكذا فبينما يعمد الخطاب العنصري الأوروبي إلى غرس العداوة للمهاجرين في نفوس الطبقات الفقيرة و المتوسطة بدعوى أن مشكل البطالة راجع أساسًا إلى وجود اليد العاملة المهاجرة ، و أن إعاعدة المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية ستحل مشكل البطالة ... نجد أن منتجي هذا الخطاب العنصري و الطبقات التي يتوجهون إليها بخطابهم هذا يستنكفون عن العمل الشاق غير "الكريم" الذي لا يليق بـ "الإنسان المتحضّر" و الذي يقوم به المهاجرون ، كالعمل في المناجم و في الحفر والبناء و الأعمال الفلاحيّة الشاقة. إن هذا يعني أن اقتصاد البلدان الأوروبية التي توجد فيها يد عاملة مهاجرة كثيرة العدد سيعاني من أزمة خطيرة إذا وقع الاستغناء عن المهاجرين ، و هذا يدركه أرباب المعامل و أصحاب الضيعات ، و يدركه المسؤولون بصورة أعمق .

     هذه المواقف المتباينة بل المتناقضة من "المهاجرين" في الخطاب الأوروبي عن الحاضر ، نجد لها امتدادات ، متباينة و متناقضة كذلك ، عندما يتعلق الأمر باستشراف المستقبل في هذا البلد الأوروبي أو ذاك . و هكذا فبينما نسمع تخوّفات مدعومة بالأرقام تحذر من نمو حجم الجاليات الأجنبية المهاجرة بفعل الولادة و الجمع العائلي و الهجرة السرية نموًا يهدد "الوحدة الوطنية" - حتى لا يُقال "وحدة العرق" - أو ينال من وحدة الدين ( المسيحية ) حيث صار الإسلام ينعت اليوم بأنه الدين الثاني في بلد كفرنسا مثلًا ... بينما نسمع مثل هذه التخوفات التي تقف موقفًا عدائيًا من المهاجرين ، نقرأ من حين إلى آخر دراسات و أبحاثًا علمية تشير إلى أن المجتمعات الأوروبية التي تنخفض فيها نسبة الولادة انخفاضًا كبيرًا و يشكل فيها الكهول و الشيوخ نسبةً أعلى من نسبة الشباب و الأطفال ستحتاج في المستقبل إلى "المهاجرين" ليمدوها بالشباب العامل ، الذي بدونه لن يكون في الإمكان ، ليس فقط مواصلة العمل ، بل أيضًا أداء مخصصات التقاعد و الرعاية الاجتماعية لكبار السن.

     و هكذا نرى أن قضية المهاجرين تطرح طرحين متناقضي الاتجاه على مستوى البنية الواحدة ، بنية هرم السكان: الخوف من أن يصبح "المهاجرون" يشكلون هم و أبناؤهم و حفدتهم نسبة عالية من السكان من جهة ، و الشعور بالحاجة إلى هذه النسبة العالية من المهاجرين لحل مشكل العمل و مشكل التقاعد و الخدمات الاجتماعية من جهة أخرى .
   


2- خطاب الخوف من الإسلام في الإعلام الغربي:

     رأينا في البحث السابق كيف أن ربط صورة الإسلام بـ "المهاجرين" في الخطاب الإعلامي الأوروبي المعاصر ربط اعتباطي على مستوى هذا الخطاب نفسه. فمشكلة "المهاجرين" ترتبط كما رأينا بالبنى الإقتصادية و الديمغرافية و النفسية ( العنصرية ) الأوروبية أكثر من ارتباطها بـ "الاسلام" ، و بالتالي فالحملة على الإسلام في الخطاب الأوروبي المعاصر يجب أن ينظر إليها في استقلال عن قضية "المهاجرين" تمامًا مثلما أن الحملة على هؤلاء يجب أن تُفصَل عن الحملة على الإسلام .

     صحيح أن الحملتين متداخلتان و أن موضوعيهما ( الإسلام و المهاجرون ) متلازمان في مخيال الرأي العام الأوروبي ، و لكن هذا النوع من التداخل إنما يؤسسه عدم وضوح الرؤية وغلبة رد الفعل الانفعالي على التفكير النقدي. و يمكن للباحث أن يلمس بوضوح مدى استقلال الحملة على الإسلام عن قضية المهاجرين إذا هو لاحظ أن الحملة على الإسلام هي أشد ما تكون اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية حيث لا توجد مشكلة المهاجرين كما في أوروبا . فالإسلام يُهاجم لا لكونه خطرًا داخليًا على الولايات المتحدة الأمريكية بل بوصفه يمثل "الخطر الخارجي" الذي يحل محل الخطر الشيوعي ، كما سنرى بعد قليل.

     ج- وما قلناه عن التلازم بين الإسلام و العرب من جهة، و الإسلام و المهاجرين من جهة اخرى ، يصدق أيضًا على التلازم الذي يقيمه الخطاب الأوروبي الإعلامي المعاصر بين "الإسلام و "الإرهاب". و قد يكفي لبيان مدى اعتباطية ربط أحدمها بالآخر أن يلاحظ المرء أن "الإرهاب" في هذا العصر ظاهرة عامة ، وذات دوافع مختلفة ، يعاني منها العالم اليوم من اليابان إلى أوروبا و أمريكا ، عبر آسيا و افريقيا. و الغريب المثير للدهشة حقًا هو أن الإعلام الغربي يُصرُّ إصرارًا على ربط "الإرهاب" بـ "الإسلام" في البلدان العربية خاصة متجاهلًا عوامله الموضوعية، في حين أنه عندما يتعلق الأمر بالإرهاب خارج البلدان العربية الإسلامية يُصرف النظر تمامًا عن ربطه بالدين ، ليقع التركيز على أسبابه الموضوعية .

     وقد لاحظ كاتب عربي - باستنكارٍ مشروع تمامًا - كيف أن الإعلام الغربي لا يستعمل نفس الميزان عندما يتحدث عن "الإرهاب": و هكذا فعندما يفجّر الجيش الإرلندي قنابله في لندن لا يُقال عن ذلك أنه إرهاب كاثوليكي ، و عندما ترتكب حركة بادرماينهوف جريمة قتل في ألمانيا لا يُقال عن ذلك أنه عمل إرهابي بروتستانتي ، و عندما ينفذّ الجيش الأحمر الياباني عملية إرهابية لا يُقال عنها أنها إرهاب بوذي ، و عندما يرتكب الصرب جرائم فظيعة ضد مسلمي البوسنة لا يُقال عن ذلك أنه إرهاب أورثوذوكسي .. الخ ، و لكن ما إن يرتكب شخص مسلم أو منظمة إسلامية عملية فردية حتى تتلاحق الاتهامات الموجهة إلى الإسلام بأنه ( دين الإرهاب ) و إلى المسلمين بأنهم ( جماعات إرهابية مشحونة بالعنف ) . 

     ليس هذا و حسب ، بل إن المرء لا يملك إلا أن يتعجب من كون الإعلام الغربي يصنف اعمال المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان و أعمال المقاومة الفلسطينية ضد احتلال إسرائيل الضفة الغربية و قطاع غزة بأنها اعمالٌ إرهابية ، بينما تمجد الأفلام الأوروبية - فضلًا عن الكتب - أعمال المقاومة ضد النازية و الفاشية ، في فرنسا و انكلترا و غيرهما. و أكثر من ذلك لا يملك المرء إلا أن يتعجب من اختلاف الموازين التي يزن بها الإعلام الأوروبي أعمال العنف التي يقوم بها الأكراد شمال العراق أو جنوب تركيا ، و أعمال العنف التي يقوم بها الباسكيون في شمال اسبانيا أو الكورسيكيون في جنوب فرنسا ، أو تلك التي يقوم بها جيش تحرير جنوب السودان .

     نخلص مما تقدم إذًا إلى أن التلازم الذي يقيمه الخطاب الغربي الإعلامي المعاصر بين الإسلام من جهة ، و العرب و المهاجرين و الإرهاب من جهة أخرى ، تلازم زائف غير مبرر ينطوي على مفارقات و تناقضات لا شيء يخفيها غير العمومية و الضبابية اللتين يستعمل بهما لفظ "الإسلام" في ذلك الخطاب. و الواقع أننا إذا حاولنا التعرف إلى ما يعنيه بالضبط لفظ "الإسلام" في الخطاب الإعلامي الأوروبي المعاصر سنجد أنفسنا أمام عبارات سلبية تقدم "الإسلام" ، هكذا ، بدون مضمون محدد ، كشيء غير مرغوب فيه ، لا بل كخصم و عدو. فهويته يتم تحديدها ليس بما هو في نفسه اليوم بل بما يحتمل أن يكون غدًا أو بعد غد ، بعد أن انتهت الحرب الباردة و زال الخطر الشيوعي. إنه إذًا "الإسلام" كما يصنعه المحللون السياسيون ، في أمريكا و أوروبا ، المولَعون بوضع سيناريوهات للمستقبل بهدف تعيين "العدو" الذي سيحل محل الشيوعية ، و كأن الحياة لا تستقيم بدون وجود "عدو". و هكذا نقرأ في تحليل لكاتب في جريدة واشنطون بوست ( 8 آذار / مارس 1992 ) قوله: "يبدو أن الإسلام مناسب لملء دور الشرير بعد زوال الحرب الباردة ، فهو ضخم و مخيف و ضد الغرب و يتغذى على الفقر و السخط ، كما إنه ينتشر في بقاع عديدة من العالم ، لذلك يمكن إظهار خرائط العالم الإسلامي على شاشة التلفزيون باللون الأخضر كما كان العالم الشيوعي يظهر باللون الأحمر". ونقرأ لكاتب آخر في الصحيفة نفسها ( 19 كانون الثاني / يناير 1992 ) هذا الوصف المثير للحركة الأصولية: "إن الأصولية الإسلامية هي حركة ثورية عدائية يماثل عنفها و تشددها الحركات البلشفية و الفاشية و النازية في الماضي ، و هي حركة استبدادية و ضد الديومقراطية وضد العلمانية ، لذلك لا يمكن استيعابها في العالم المسيحي العلماني ، و بما أن هدفها إنشاء الدولة الإسلامية المستبدة فلا بد من أن تقوم الولايات المتحدة بوأدها عند الولادة" 

     و يعرض الرئيس الأمريكي السابق نيكسون في كتابه الأخير انتهاز الفرصة لصورة العالم الإسلامي في مخيال الأمريكيين فيذكر العناصر التي تتشكل منها هذه الصورة ( امتلاك العرب للنفط ، حروبهم مع اسرائيل ، الرهائن الإمريكيين في إيران ... إلخ ) ليقرر بعد ذلك أنه "ليس لأمة في العالم ، ولا حتى للصين ، صورة سلبية في الضمير الأمريكي مثل صورة العالم الإسلامي" ( ص 195 ) . ثم يعرض لرأي المراقبين الذين يؤكدون أن الإسلام سوف يصبح قوة جيوسياسية مستعصية: فمن خلال نمو سكانه و من خلال تبوئه مركزًا ماليًا مهمًا سيفرض تحديًا رئيسيًا يحتم على الغرب أن يقيم تحالفًا جديدًا مع موسكو للتصدي لعالم إسلامي معادٍ و عدوانيّ ( ص 195 ) . ومع أن نيكسون لا يرى مبررًا لهذا الخوف من الإسلام ، إذ العالم الإسلامي في نظره "أكبر و أكثر تنوعًا من أن يحركه قرع طبل واحد" فإنه يقرر أن صراع الولايات المتحدة و أوروبا مع العالم الإسلامي أمر لا مفر منه بسبب الانفجار السكاني في بلاد الإسلام و عدم تساوق النمو الاقتصادي مع النمو الديمغرافي و استفحال الانظمة الاستبدادية. ثم يرسم نيكسون بناءً على ذلك الاستراتيجيا التي يرى أن على الولايات المتحدة العمل بها "للتأثير في التطور التاريخي في العالم الإسلامي" الشيء الذي يعني العمل على ضمان استمرار هيمنة الولايات المتحدة على هذا "العالم".

     ولا نحتاج هنا إلى تقديم شهادات مماثلة منقولة عن وسائل الإعلامية الأوروبية ، فهي تعيد إنتاج نفس الخطاب ، خطاب "الخوف من الإسلام" و تتغذى مما تنتجه وسائل الإعلام الأمريكية من أخبار و مشاهد و صور ، فضلًا عن خطاب التعصب و العنصرية المستشري في الأوساط اليمينية خاصة. و قد تكفي الإشارة هنا إلى أن جريدة معروفة برزانتها ، مثل لومند ديبلوماتيك ، لم تتردد في وصف المسلمين في أوروبا بأنهم يشكلون "قنبلة موقوتة ضد الغرب"

     و دون الدخول في سجال مع هذا النوع من الخطاب الذي لا يعبّر إلا عن هواجس و مخاوف تجد مصدرها في مكونات "الأنا" الغربي و فراغاته الداخلية ، فإن هناك سؤالًا يعرض نفسه على الباحث: لماذا هذا "الخوف" من الإسلام الذي تئن جميع أقطاره من الهيمنة الإمبريالية الغربية و يعاني من مشاكل داخلية متفاقمة ؟ كيف يقبل العقل الأوروبي تسرب مثل هذا الخوف غير المبرر إلى خطابه ؟

     أسئلة سنبحث عن جواب عنها في البحث التالي.



3- آليات العقل الأوروبي .. في صنع صورة العرب و الإسلام في خطابه:

     يمكن للباحث السيكولوجي أن يلتمس لخطاب "الخوف من الإسلام" في وسائل الإعلام الغربية دوافع دفينة في الرغبات التي لا يريد الخطاب الغربي التعبير عنها صراحة ، و التي تنبع من حاجات أشبه بالحاجات البيولوجية بالنسبة إلى اللاشعور الفردي ، مثل الحاجة إلى البترول و الرغبة في استمرار الهيمنة عليه ، و الحاجة إلى المهاجرين المتناقضة مع الرغبة في التخلص منهم تحت ضغط هواجس اقتصادية أو عنصرية ، و الحاجة إلى بقاء العالم الإسلامي قائمًا كـ "آخر" لا بد منه و الرغبة في أن يظل مشتتًا متخلفًا تابعًا . . . و هنا نكون أمام ميكانيزم سيكولوجي من تلك الميكانيزمات التمي تمكن الرغبات الدفينة من الإفلات من رقابة "الأنا"تحت غطاء من الأغطية المقبولة ، و هو هنا "الإسلام" الذي كان طوال عصور من التاريخ الأوروبي يمثل "الآخر" للأنا المسيحية .

     قد يفيد هذا النوع من التفسير في الخروج بالظاهرة التي نحن بصددها من عمومية و ضبابية ولاموضوعية الخطاب الإعلامي إلى دائرة البحث الاركيولوجي ، أقصد حفريات المعرفة ، و ذلك بالبحث عن الآليات الايبيستيمولوجية التي تجعل رقابة "الأنا" ، رقابة العقل الغربي ، تضعف إلى الدرجة التي تجعل الخوف المبني على أوهام شيئًا يُعامل كما يُعامل المعطى الواقعي. إن هذا يحيلنا إلى أمرٍ هام أعتقد أن الانشغال به صار ضروريًا اليوم و غدًا ، و هذو فحص آليات العقل الأوروبي الراهن ، العقل المنتج للخطاب ا لإعلامي المعاصر و الواقع تحت تأثيره هو نفسه. و فيما يلي ملاحظات أولية سريعة في هذا المجال: 


     أ- لعل أول ما يلفت نظر الباحث، الذي ينتمي إلى ثقافة أخرى غير الثقافة الأوروبية، وهو يبحث عن تفسير لذلك النوع الذي عرضنا له من الخطاب الذي ينتجه العقل الأوروبي عن الإسلام، هو أن العقل الأوروبي لا يعرف الإثبات إلا من خلال النفي، وبالتالي لا يتعرف إلى "الأنا" إلا عن طريق "الآخر". وهذا شيء معروف في الفكر الأوروبي منذ القدم. ففي الفلسفة اليونانية لم يستطع بارمينيدس الكلام على "الوجود" إلا من خلال طرح "اللاوجود" ولا الحديث عن المتناهي إلا من خلال "اللامتناهي". وعندما قام تلميذه زينون الأيلي للدفاع عن أطروحاته بنى حججه على فكرة "أن كل تعين سلب". ولم يفعل هيغل شيئًا آخر سوى أنه جمع بين فكرة زينون و فكرة سبينوزا ليؤسس الديالكتيك عليهما: "كل تعين سلب وكل سلب تعين" وهذا النوع من الترابط بينهما هو الذي يصنع التركيب. ومن هنا أهمية النفي عنده وفي التقليد الفلسفي الأوروبي عمومًا: فالإثبات لا يقوم إلا عبر النفي والأنا لا تتحدد إلا عبر الآخر. وكما قال سارير: "الآخر ضروري لوجودي". و بكيفية عامة فالعقل الأوروبي لا يرى العالم إلا من خلال تقابل الأطراف، كتقابل الأنا و الآخر. وهكذا وسواء تعلق الأمر بالمثالية (هيغل) أو بالمادية (ماركس) أو بالوجودية (سارتر). أو بغيرها من مذاهب الفكر الأوروبي، فإن الوجود، ميتافيزيقيًا كان أو اجتماعيًا أو سيكولوجيا، ينظر إليه على أنه صراع أضداد. بل إن اللاهوت المسيحي نفسه يحكمه التقابل بين "الخطيئة" و"الخلاص" ، بين"الأب" و"الإبن" ... إلخ.

     أما على صعيد التعرف إلى الهوية في الفكر الأوروبي فإن  الباحث يستطيع أن يجد من الأمثلة ما يؤكد هذا "الثابت" في طريقة التعرف إلى الأنا في الرؤية الأوروبية للعالم: وهكذا فمنذ اليونان والرومان و"المواطن" يتعرف إلى هويته من خلال "العبد" داخليًا و"البرابرة" خارجيًا. أما المسيحية فلم تكن تتعرف إلى نفسها خلال القرون الوسطى إلا من خلال وضعها "الإسلام" كآخر، خصم وعدو. أما في العصر الحديث ومع انتشار الرحلات والاستكشافات الجغرافية وذيوع الفكر العلماني في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، فإن ثنائية الشرق "الشرق و"الغرب" أصبحت تحكم حديث الأوروبي عن نفسه، وهكذا أصبح الغرب لا يتعرف إلى نفسه إلا من خلال الصورة التي يبنيها لنفسه عن "الآخر": الشرق. واستمرت هذه الثنائية في التعمق داخل الوجدان الأوروبي إلى درجة أن مفكرًا إنكليزيًا لم يستطع تحديد "العرب" إلا بقوله "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا". وكان الشرق يعني: الشرق الأوسط والشرق الأقصى.

     وعندما قام الاتحاد السوفياتي بعد ثورة 1917 حلَّ "الآخر" الشيوعي محل الآخر "الشرق"، فصار الغرب يتعرف إلى نفسه من خلال نقيضه الاقتصادي الاجتماعي: العالم الشيوعي الذي كان يمتد انطلاقًا من أوروبا الشرقية. وهكذا حل لفظ Est (الشرق الجغرافي النسبي) محل Orient (المشرق: الشرق الأوسط والشرق الأقصى)، كما حل بالمقابل لفظ Ouest محل Occident، فصار الغرب يتعرف إلى نفسه من الخلال الآخر الـ Est الذي يعني شرق أوروبا والاتحاد السوفياتي ... إلخ. وها نحن نرى اليوم ثنائية شمال/ جنوب تحل محل ثنائية غرب/ شرق بعد أن لم يعد "الشرق" قابلًا للتوظيف في التعرف إلى الأنا "الغرب" بعد سقوط الشيوعية. وكما استعمل العقل الأوروبي الجهات الجغرافية المتقابلة للتعرف إلى ذاته، استعان بالألوان أيضًا للغرض نفسه وهكذا فـ "الآخر" هو تارةً "الخطر الأصفر" وتارة "الخطر الأحمر"، وها نحن نسمع اليوم عن "الخطر الأخضر" (الإسلام).. وفي جميع الأحوال يسكت الأنا عن لونه "الأبيض".

     ومن المصادفات التاريخية أن الشيوعية سقطت في وقت برزت فيه على السطح في بلاد الإسلام تيارات معارضة للحكومات رفعت شعار "الإسلام" بعد أن لم يعد هناك شعار آخر قادر على تعبئة الجماهير، بعد تراجع شعار "القومية العربية"، بعد هزيمة 1967 وأفول نجم الماركسية والطفرة اليسارية التي انطلقت مع أيار/ مايو 1968 في أوروبا وأمريكا. ولا بد من التفكير هنا بأن الغرب كان يعتبر "الإسلام" حليفًا له في صراعة ضد الشيوعية. ولا بد من التذكير كذلك بأن الغرب لم يكن يرى في ثورة الخميني ضد الشاه، ولا في الإخوان المسلمين في مصر أيام جمال عبدالناصر ما يحمله على النظر إلى "الإسلام" كـ "آخر" عدو، بل بالعكس لقد وجد الخميني في فرنسا مركزًا للدعاية والاتصال، ولم تر فيه الولايات المتحدة ذلك الخصم الذي يستحق أن تغامر بالوقوف ضده وتراهن على الشاه بمساندته مساندة حقيقية. ومثل ذلك يقال عن الهجرة والمهاجرين، فالمسألة كانت قائمة منذ مدة ولم يكن ينظر إليها على أنها ذات علاقة بـ "الإسلام". وكذلك الشأن في "الإرهاب"، فلقد نفذت فصائل من المقاومة الفلسطينية في السبعينات عمليات خارج فلسطين، كخطف الطائرات وتفجير قنابل في أوروبا نفسها، مع ذلك لم تربط هذه العمليات لا بـ "الإسلام" ولا بـ "العرب" جملة، بل ربطت بحركات معروفة بأسمائها وقادتها.

     و إذًا فالحملة على الإسلام اليوم هي عملية من قبيل "كل سلْب تعيّن"، بمعنى أن الغرب لم يعد قادرًا على التعرف إلى نفسه، إلا بعد انهيار خصمه الشيوعية وإلا من خلال تنصيب "الإسلام" كـ "آخر" جديد. وكما يفعل العقل الغربي دائمًا، فهو عندما يتخذ طرفًا ما "آخر" له، يبنيه بناء جديدًا، بل يصنعهُ صنعًا ليضمّنه جميع أنواع "السلب" -أو النفي- التي تمكنه من تحديد هويته هي إيجابيًا. وهكذا يصبح "الإسلام" وعاء لكل ما لا يرغب فيه الغرب ولكل ما يخاف منه، وبالتالي فالإسلام كـ "آخر" يعني في الوقت نفسه "العرب" بوصفهم مصدر تهديد محتمل لتزود الغرب بالنفط، ويضم "المهاجرين" بوصفهم مصدر تهديد محتمل على مستوى التركيب السكاني لأوروبا، كما يضم "الإرهاب" بوصفه يهدد الغرب ومصالحه في العالم العربي الإسلامي ... إلخ. وهكذا فكما صنع المستشرقون "الشرق" ليكون "الآخر" للغرب في القرن الماضي، كما أوضح ذلك بجلاء أدوارد سعيد، هاهي وسائل الإعلام، هاهي وسائل الإعلام الغربية تصنع "الإسلام" وتبني صورته بالشكل الذي يمكن أن يجعله يقوم بوظيفة "الآخر". و إذًا فـ "الإسلام" اليوم في وسائل الإعلام الغربية إسلام مُسَلْمَن (islamise) إن صح التعبير، كما كان شرق المستشرقين مشرقَنًا (orientalis)، حسب تعبير أدوارد سعيد.

     ب- هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا بد من الإشارة هنا إلى آلية أخرى من آليات العقل الأوروبي في صنع صورة الإسلام في الوقت الحاضر، أقصد آلية صنع السيناروهات. إن العقل الأوروبي لم يعد يرى المستقبل من خلال ما ينبغي أن يكون (اليوتوبيا) ولا من خلال ما سيكون ضرورة (الحتمية التاريخية)، بل إنه يراه اليوم نظرة "ليبرالية" قوامها وضع سيناريوهات، أي استعراض الإمكانيات المحتملة واختيار السيناريو "الأقر" إلى التحقق. وعملية "اختيار الأقرب" تحددها في كل وقت هواجس الحاضر ومشاغله، وقد تشجع عليها رواسب وذكريات دفينة. وهكذا فبمجرد ما تبين أن الاتحاد السوفياتي آخذ في الانهيار، حتى بادر المحللون إلى وضع السيناريوهات لمعرفة من يمكن أن يحل محل الشيوعية كـ "آخر" عدو للغرب في عالم الغد، وكأنه من الضروري أن يكون للغرب عدو، وكأن الأنا الغربي سيظل هوية فارغة إذا لم يوضع في مقابله طرف "آخر" يتعرف من خلاله إلى نفسه. وبطبيعة الحال فإن واضع السيناريو، عندما يرى انهيار الشيوعية و إقبال روسيا والصين على تبني النظام الرأسمالي والاندماج في "الاقتصاد العالمي" الذي يهيمن عليه الغرب.. وعندما يكون صاحب السيناريو يصدر في تصوراته من ذاكرة تاريخية ومخزون ثقافي يكرّس ثنائية المسيحية/ الإسلام، والشرق/ الغرب، فإنه ينزلق بسرعه إلى ترشيح "الإسلام" لمنصب "الآخر" العدو للغرب. ويغريه على هذا الترشيح إمكانية توظيف "العرب" (أصحاب النفط) وقضية "المهاجرين" وظاهرة "الإرهاب" والكصرة العددية للمسلمين والقوة التعبوية للإسلام كشعار... إلخ، توظيف كل ذلك في إعطاء مضمون لهذا "الآخر" الجديد الذي لا بد من أن يكون مملوءًا غنيًا بجميع أنواع السلب التي تتعين بها "الأنا" الغربية والتي تمكّنها من الشعور بالامتلاء والغنى.



4- الإسلام الذي يسكت عنه الإعلام الغربي:

     أبرزنا في البحث السابق دور كل من آلية التعرف إلى الأنا من خلال الآخر وآلية صنع السيناريوهات في إنتاج وإعادة إنتاج صورة مصنوعة عن العرب والإسلام في الخطاب الغربي. ويبقى علينا أن نبرز دور وسائل الإعلام السمعية البصرية  



     



     

     `




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

طفل علّيين - جاسم الصحيح

تغريدات الدكتور عدي الحربش وحديثه عن ديوان ( الأهلّة ) و شاعره محمد عبدالباري .