تغريدات الدكتور عدي الحربش وحديثه عن ديوان ( الأهلّة ) و شاعره محمد عبدالباري .




*ملاحظة :
التغريدات تم نقلها نصّاً من دون تغيير أو تعديل .

حساب د. عدي الحربش في تويتر:
@AdiAlherbish
________________________________________



سأتحدث في التغريدات القادمة عن ما أعدّه أهم ديوان شعرٍ صدر في الخمسين السنة الأخيرة: لمحمد عبد الباري

- إن كنت مثلي تؤمن أنّ الدهرَ لا يجود إلا بشاعر أو اثنين في كل عصر، انظر في "الأهلّة" وستعلم أنّ عبد الباري هو الطائر المحكيّ والآخرون الصدى . أقولها دون مجاملة، ولو كنتُ شاعرًا وسمعتُ عبد الباري يُنشد لكان لزامًا أن أكسر القلم وأهجر الشعر، كما هجر السحرةُ السحر حين ألقى موسى عصاه

- صدر ديوان "الأهلّة" قبل ثلاثة أشهر، وهو ثالث نتاج الشاعر بعد "مرثيّة النار الأولى" و "كأنك لم" ، وأعدّه قفزةً هائلةً في موسيقاه ومواضيعه
فأما الموسيقى، فالديوان يحتوي ٢٢ قصيدةً؛ ١٦ منها عامودية ، و ٦ تفعيلة ، ونوّع أنغام قصائده العامودية على ٨ بحور خليلية ، مما يشي بمهارته =

- بعض هذه البحور مهجور لصعوبته، كقصيدته البديعة "أشواق الضفة الأخرى" بناها على البحر المجتث (مستفعلن فاعلاتن) فجاءت أعذبَ ما يكون ، وعبد الباري إذا كتبَ التفعيلة يكون كغيره من الشعراء، أما إذا كتب العامودية فإنّه يحلّق إلى سماءٍ لا يدركونها ولا يستطيعون حتى التطلع إليها ، ولا أعرف سببًا لذلك، وأغلب ظني أنّ المساحةَ الضيّقةَ لكل بيتٍ تجبره على تركيز فكرته في الشعر العمودي، وهو شيء يناسب شعرَه وطريقته في القول أما في التفعيلة فإنّ الفكرةَ عنده تكبر وتتمددُ وتترهل، وقد يناسب ذلك بعض الشعراء المهذارين، لكنه لا يناسب عبد الباري. ويكفيه فخرًا أنّه حقق شرط الحداثة داخل بنية القصيدة العامودية، بينما اشتغل سابقوه على كسر العمود دون أن تكون مواضيعهم وتكنيكاتهم بنصف حداثة عبد الباري .

- وهذا يقودني إلى الحديث عن مواضيع "الأهلّة"، ففي ديوانيه السابقين جوّد عبد الباري نوعين من القصائد؛ الأول يتحدث عن الحالة العربية متكئًا على حشدٍ من الإحالات التاريخية والأسطورية كقصيدته الشهيرة "ما لم تقله زرقاء اليمامة"، والثاني القصيدة شبه الصوفيّة، وقلت "شبه" لأنّها تناسب القصيدة الصوفيّة في مُعجمها وأجوائها إلّا أنّ غرضها يأتي في أحايين كثيرة دنيويًا خالصًا، كقصيدته الرائعة "تناص مع سماء سابعة"

- التفت عبد الباري في ديوانه الجديد "الأهلّة" إلى مواضيعَ فلسفيةٍ جديدةٍ أكثر عمقًا: كالذات، والآخر، وعلاقته بهذا الآخر، ودور اللغة بينهما ، وأخالُ أنّ عبد الباري أعملَ فكره كثيرًا في موضوع اللغة والطريقة المثلى للتعبير، وقرر أخيرًا أنّها تلك التي تعتمد أكثر على غير المنطوق ، فلو كان المعنى المُختمر في ذهنه بدرًا كاملا لن يستخدم للتعبير غير هلالٍ من اللفظ فقط، وعلى القارئ أن يحدس الوجه المظلم الباقي من القمر . إنَّ الهلالَ الذي هو بشارة قدوم رمضانَ هو أيضًا بشارةُ قدوم المعنى، والطرف المضئ من الباقي المظلم، إنّها طريقة تعتمد على الحدس، والإحالة والجمع بين المتناقضات، ويكون الغياب فيها أمثل وأكثر حضورا من الحضور نفسه، كما في الحضور الإلهي. بودّي لو ينتبه القارئ إلى طريقة عبد الباري في جمعه بين المتناقضات ، عرف القدماء الطِباق، لكنّ شاعرنا مشى به خطوةً إضافية فجعله أشبه شيءٍ بالدياليكتيك الهيجلي، فهو يجمع النقيضين لا ليستأنسَ بتضادهما - كما جرت العادة - وإنّما ليوّلد منهما معنى ثالثًا متعاليًا، كقوله: الوضوح الخفيّ، والفراغ الآهل، والثابت المنتفي، إلخ

- والآن سأعرّج على خمس قصائد من الديوان وأعلّق عليها سريعًا. أنبّه أنّ ما أضعه في الصور ما هو إلّا مختارات مُجتزأة لا تمثّل القصائدَ كاملة :

يفتتح عبد الباري ديوانه بقصيدة "الأسوار" وخيرًا فعل :

الصمتُ والكلماتُ في متناولي
هو في النهاية حصّتي من بابلِ


آخيتُ آلهةَ الأولمبِ فلَم أغب

إلّا لأكشِفَ عن حضورٍ كامِلِ

و فتحتُ للمعنى اتجاهاً واحداً
من داخلي تمشي البروق لداخلي

شيّعتُ للأبوابِ أشيائي لكي
أمتدُّ وحدي في الفراغِ الآهلِ

قد تخسرُ الأشجارُ حكمتَها و إذا
منحت صداقتها لظلٍ زائلِ

أنا في الغيابِ الآنَ قولٌ لم يزَلْ
يحتاجُ بعد المستحيلِ لقائلِ


قد لا أكونُ فليسَ من كينونةٍ
إلا و تغرقُ في الزمانِ السائلِ

متكثّرٌ فيَّ الوجودُ و طالما
أورَقتُ في المقتولِ فبلَ القاتِلِ

لا أستريحُ إلى المكانِ كأنني
عُلّقتُ في قمرٍ بغيرِ منازِلِ

قالت ليَ الطُرقاتُ: أهلكَ ها هُنا
فخذِ الحقيقةَ راحِلاً عن راحِلِ



هي تلخص كل ما قلته آنفا عن الذات والآخر واللغة، ويحيل فيها إلى أسطورة انهيار برج بابل وتشظّي اللغة، لكنّ ما يجذب الانتباه هنا هو حصته التي ارتضاها من بابل؛ ليست الكلمات فقط، بل الصمت ، وهو ما سيستخدمه بكفاءة على طول الديوان ، إنّه يلجأ إلى نصف المنطوق كي يتكلمَ المسكوتُ عنه، طريقة استفادها من آلهة الأولمب، حيث الغياب حضور كامل، لكن ماذا يفعل في وحدته؟ في ضفته الأخرى؟ هو يتوق إلى التواصل، فبروق المعنى تكاد تملؤه، وغرفته -بعد أن أفرغها من الأثاث- آهلة مزدحمة به وبأفكاره وبالمعنى ، لكنه متردد فالأشجار تفقد شيئا من حكمتها لو صادقت ظلا زائلًا. يالها من قصيدة حزينة تملأها الوحدة، والشاعر لا يستمد عزاءه إلّا من اللغة، سلّمه الحجريّ نحو أهليه من الشعراء وأبناء الطريق وصانعي المعنى والحقيقة، وأنا لا أستطيع أن أترك القصيدة دون أن أثني على استخدام عبد الباري الذكيّ للمصطلحات الفلسفية والكلامية، وإقحامها في صوره الشعرية: متكثّر فيّ الوجود وطالما/ أورقت في المقتول بعد القاتلِ، هل قرأت شيئًا أبرع من هذا؟


- القصيدة الثانية "شكل أول للوجد" نموذج لما أسميه القصيدة شبه الصوفيّة :

تهبّينَ كالتعبِ النبويّ
مُلألأةً بالوضوحِ الخفي

أيا امرأةً اللحظاتِ الثلاث
تجلّيتِ قبلَ و بعدَ و في

لوجهكِ متّقِداً في الجبال
أشقُّ الدروبَ ولا أقتفي

يسمّيكِ وقتُكِ: ما لا يُذاق
أسمّيكِ: من ذاقَ لم يكتَفِ

أُسمّيكِ هذا الهواءَ الغريب
لأني عرفتُ و لم أعرِفِ

يقولُ لكِ الوردُ في داخلي
بحقّ صلاتي عليكِ اقطفي

أخذتكِ دهشة في المجاز
يسيلُ بها الوحيُ في المصحفِ

سنعبُرُ في هُوّةِ الخوفِ هلْ
تقولينَ : قف ؟ هل أقولُ: قفي ؟


يوتّرنا البردُ و المستحيل
تعالي إلى داخلي و ارجفي

أُعيذُكِ أن نخونَ الدُوار
و نركُنَ للثابتِ المُختَفي

دعي للبدايةِ إيقاعها
فأوراقنا بعدُ لم تُكْشَفِ


فهي قصيدة غزل صرفة ، غاية في العذوبة، تتكئ كثيرا على المعجم الصوفيّ ، والأمر طريف، لأنّك لن تجدَ أيّ وصفٍ حسيّ لمعشوقة عبد الباري، فهي دهشة مجاز، وتعب نبويّ (يا لبراعة التشبيه!) وتكاد تنحل فإذا بها هواء محض! ورغم أنك لن تجد معشوقةً من لحم ودم، إلا أنك ستلقى وجدا وغراما وتبتلا حقيقا، أليس يناجيها: يقول لكِ الورد في داخلي/ بحقّ صلاتي عليكِ اقطفي؟ والأمر أحد اثنين: إمّا أنّ الشاعر يعمّي في وصف محبوبته حذرًا عليها وإشفاقًا وغَيرةً، أو أنّه -هو الجالس في ضفته الأخرى- لا يعرفها تمامًا فعشقه مثل لغته، أقرب ما يكون إلى الحدس، وأظنه يريده أن يبقى هكذا أبدًا، في منطقة المثال: دعي للبدايةِ إيقاعَها/ فأوراقُنا بعدُ لم تُكشَفِ!



القصيدة الثالثة "أندلسان"


الذاهبونَ أهلّةً و غماما
تركوا شبابيكَ البيوتِ يتامى

خرجوا ولم يجدِ الفراغُ خَلاصَهُ
أبداً ولم تلِ الجبالُ خُزامى

خرجوا ولا أسماءَ تحرسُهم وقد
كانت ملامحهم تسيلُ هُلاما

لا يحملونَ سوى القليلِ من الذي
في ضوئِهِ نحتوا المجازَ رُخاما

ها همْ وقد سقطَ المكانُ ورائهمْ
و أمامهم و الوقتُ عنهم قاما

دخلوا القصيدةَ وهيَ تغلقُ نفسها
و تجمّعوا في الذكرياتِ رُكاما

يا أنتَ أندلسُ المكانِ قريبةٌ
مقدارَ ما القوسُ استعادَ سِهاما

لا بأسَ دعْ عينيكَ في حزنيهما
أمويّتينِ و تطلبانِ شآما

يا أنتَ أندلسُ الزمانِ بعيدةٌ
جداً فكنْ لليائسينَ إماما

غرناطةٌ مالا يُزارُ لأنّها
وقتٌ وهذا الوقتُ صارَ حُطاما

صِف لي وقوعَكَ في الرثائياتِ كي
يقعُ الغريبُ على الغريبِ تَماما


تدخل ضمن قصائد الحنين والنوستالجيا التي قيلت توجعًا على الأندلس الضائعة، وأشهرها قصيدة نزار قبّاني الدالية يقول نزار: في مدخل الحمراء كان لقاؤنا/ ما أطيبَ اللُقيا بلا ميعادِ .. وإنّي أحبُ لك ألّا تقرأ "أندلسان" حتّى تمرَّ على قصيدة قبّاني كي تدركَ أنَّ عبد الباري خاطبه وتجاوزه عندما تناول الموضوع من زاوية فلسفية، فالأندلس عنده أندلسان: أندلس المكان وأندلس الزمان، والشاعر كتب قصيدته هذه بعد أن زار قرطبة وغرناطة، وأخاله دار في الجامع الكبير والحمراء وبحث عن أندلس ابن زيدون والأعمى التطيلي وابن زُهر ولسان الدين ولم يجدها، فأندلس الزمان ليست أندلس المكان، وهو ما عبر عنه في بيته البديع: غَرناطةٌ ما لا يُزارُ لأنّها/ وقتٌ وهذا الوقتُ صار حُطاما أما بيته الأخير فلا أفهمه إلا أن يكون خطابًا إلى نزار أو غريب آخر بكى الأندلس: صفْ لي وقوعك في الرثائيات كي/ يقعَ الغريبُ على الغريب تماما


- القصيدة الرابعة "أشواق الضفة الأخرى" تكاد أن تكون رجعَ جوابٍ لقصيدة "الأسوار" التي افتتح عبد الباري بها ديوانه، وقرارًا لها، وثورةً عليها :


أودُّ أن أتناهى
في اللهِ كي لا أودّا

و أن أكونَ خفيفاً
على المنازِلِ جدّا

و أن أرى مُعجزاتي
تقولُ: لن أتحدى

لقد تعبتُ و صمْتي
نأى وصوتي استبدّا

قد كنتُ مثلَ الهيولى
لكلّ شيءٍ مُعدّا

لا وجهَ لي غيرَ ضد
ينسى بوجهي ضدّاً

كَم قلتها: يا وقوفي
كُن للزلازِلِ نِدّا

ويا وجودي هنا ضَعْ
للانهائيّ حَدّا

ويا ارتجاليَ قلني
من دونِ أن تستعدّا

و الآن والبحرُ يمشي
عليَّ جزرًا و مدّا

والغامضُ المتواري
أعارني واستردّا

قد آنَ يا فيضاني
ألّا تُناقِشَ سدّا

تعالَ لي يا خلاصي
لا لم أجدْ مِنكَ بُدّا


هو لم يعد يطيق البقاء في الضفة الأخرى، مكتفيًا بنصف الحضور ونصف النطق، هو يودّ أن لا يود، وأن لا يأبه، لكنه يدرك أنّ هذا شيء إلهي لا يُطاق ، فالمعنى يتفجر داخله كالطوفان، وكذا توقه إلى الآخر، والطريف أن هذا الطوفان الذي داهمه في أبو ظبي وهذا الفيض تمثل في وزن رشيقٍ قصير كالمجتث!


- القصيدة الخامسة "ما سقط من تغريبة بني هلال"


سنسمّي آخرَ الموجِ بلادا
ونعانيها انحساراً و امتدادا

سَفَرٌ يفرُدنا أجنحةً
دونَها ينتفخُ الأفقُ انسدادا

الليالي في مدى ليلتنا
لبستْ أسودَها العالي حِدادا

يا اقترابَ الخيلِ من أبوابِنا
كلما قلناكَ نزدادُ ابتعادا

صاحبي والدربُ موسيقى ترى
نفسَها ما ذهبَ اللحنُ وعادا

نحن مكتوبون باسمِ المنتأى
فلنقدّم للمسافاتِ امتدادا

و لنصدها فكرةً يا طالما
غيّرت عنوانها كي لا تُصادا

قد تجاوزنا المحاريبَ معاً
لنُصلّي المغربَ الآن فُرادى

هل ترى عقبةَ يثني روحَهُ
قبلَ أن يثني عن الماءِ الجيادا

و لسانَ الدينِ ينعى دَمَهُ
يا زمانَ الوصلِ إنّ الغيثَ جادا

أينَ أصبحنا ؟ بخورٌ شاذليٌ
من سقوفِ المَلأِ الأعلى تهادى

بُردةٌ تلبسُ أهلَ الله قالت
بعدَ كعبٍ جفّفَ البينُ سُعادا

غامضٌ يجتذبُ الغامِضَ منّا
مثلما تجتذبُ الياءُ المنادى

خذ يدي حتى نذوقَ المنتهى
أوشَكَ المُطلقُ و العابرُ كادا


قد تكون أحبَّ قصائد عبد الباري إلى قلبي، كتبها في الرباط، وأكاد أتخيّله وقد وقف على الأطلسيّ ونظرَ إلى الموج، فوقرَ في قلبه أنّ حاله في تطوافه وسفرِه كالموج تمامًا يمتد وينحسر، تذكّرَ سلَفه عقبةَ بن نافع وهو يناجي المحيط قائلًا: والله يا بحر الظلمات لو كنت أعلم أن خلفك أرض عليها بشر لخضتك، ثمّ تذكّر ما قرأه في طفولته عن أبي زيد، وذياب بن غانم، وبني هلال، وتغريبتهم الطويلة المستميتة من صحراء نجد إلى أقاصي تونس والمغرب، وكل البلاد التي فتحوها وتركوها خلفهم، ولعلّ هاجسَه اللغوي والفيلسوف داخله تمكّن منه فأراه تقابلًا بين تغريبة بني هلال والسفر وراء المعنى، وما يسقط من المعنى أثناء الصياغة: ولنصدها فكرةً يا طالما/ غيّرت عنوانها كي لا تصادا .


- والآن، تخيّل أنّك في زمن المتنبي ولم تقرأ لأبي الطيّب! أو في زمن بودلير ولم تشترِ "أزهار الشرّ"! إنّك في زمن عبد الباري، اقرأ "الأهلّة"!

________________________________

كتبها الدكتور عدي الحربش

صباح الثلاثاء 21 مارس 2017


















































































تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

طفل علّيين - جاسم الصحيح

صورة العرب و الإسلام في وسائل الإعلام الغربية - محمد عابد الجابري